القصص القرآني.. دروس وعبر
هذه القصة تضرب المثل الأعظم في الصبر، تلك الفضيلة التي تظهر ساعة المحن، عندما يبتلي الله أحدا من عباده، وكما يقال فإن الصبر “مطية” لا تكبو، ونبي الله أيوب يضرب به المثل في الصبر، عندما تعرض لبلاء شديد، فأعطى درسا عظيما في الصبر والاحتساب والرضا بقضاء الله تعالى، ليصفه المولى عز وجل بقوله: “إنا وجدناه صابرا نعم العبد إنه أواب” (ص: 44).
ورسولنا الكريم محمد صلى الله عليه وسلم يقول: “أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الصالحون ثم الأمثل فالأمثل”، ويقول أيضا: “يبتلى الرجل على قدر دينه، فإن كان في دينه صلابة زيد في بلائه”، وقال: “من يرد الله به خيرا يصب منه”.
جاءت قصة أيوب عليه السلام مرتين في القرآن الكريم، الأولى في سورة الأنبياء في قوله تعالى: “وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر وآتيناه أهله ومثلهم معهم رحمة من عندنا وذكرى للعابدين” (83 -84)، والثانية في سورة “ص” في قوله تعالى: “واذكر عبدنا أيوب إذ نادى ربه أني مسني الشيطان بنصب وعذاب. اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب. ووهبنا له أهله ومثلهم معهم رحمة منا وذكرى لأولي الألباب. وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث إنا وجدناه صابرا نعم العبد إنه أواب” (ص: 41 - 44).
وأيوب عليه السلام كان أحد الأغنياء، يعيش مع زوجته في نعيم مقيم ببلاد الشام، وكان كما يقول علماء التفسير والتاريخ كثير المال، وهو في الوقت نفسه بر تقي رحيم، يحسن إلى المساكين ويكفل الأيتام والأرامل ويكرم الضيف، ويشكر الله سبحانه وتعالى على نعمائه ويؤدي حق الله في ماله: كانت زوجته ترفل في هذا النعيم شاكرة المولى عز وجل على ما رزقها من البنين والبنات وعلى ما أوسع على زوجها من الرزق.
بداية الابتلاء
وجاءت بداية الابتلاء بأن سلب منه كل أهله، وابتلي في جسده بأنواع عدة من الأمراض، ولم يبق منه عضو سليم سوى قلبه ولسانه يذكر بهما المولى عز وجل، وهو في ذلك كله صابر محتسب، يذكر الخالق في ليله ونهاره وصبحه ومسائه، ثم طال مرضه -كما يقول الشيخ محمود المصري وانقطع عنه الناس، ولم يبق أحد يحنو عليه سوى زوجته التي ضعف حالها وقل مالها، حتى باتت تخدم في البيوت بالأجر لتطعم زوجها المريض، تفعل ذلك وهي الزوجة الصابرة المحتسبة، وكلما زاد الألم بأيوب زاد صبره وحمد الله وشكره على قضائه.
أما الزوجة الوفية فقد عاشت مع زوجها محنته طوال ثمانية عشر عاما، فكانت مثالا للمرأة البارة بزوجها الحانية عليه.
أمام هذا الموقف العصيب أشفقت الزوجة على زوجها النبي الصابر، بعدما طال عليه البلاء ولم يزده إلا شكرا وتسليما، عندئذ تقدمت منه وقالت له -فيما رواه عبد الله بن عباس رضي الله عنهما-: “يا أيوب، إنك رجل مجاب الدعوة، فادع الله أن يشفيك، فقال: كنا في النعماء سبعين سنة، فدعينا نكون في البلاء سبعين سنة”!
وهكذا ورغم هذا المرض الشديد والابتلاء القاسي الذي تعرض له نبي الله أيوب عليه السلام، إلا أنه كان ذا قلب راض وصابر، ولم يسخط لحظة واحدة، ولذلك وصفه المولى عز وجل بقوله: “إنا وجدناه صابرا نعم العبد إنه أواب” (ص: 44). أي تواب رجاع مطيع، وسئل سفيان الثوري عن عبدين اُبتلي أحدهما فصبر وأنعم على الآخر فشكر، فقال: كلاهما سواء لأن الله تعالى أثنى على عبدين أحدهما صابر والآخر شاكر ثناء واحدا، فقال في وصف أيوب: “نعم العبد إنه أواب”، وقال في وصف سليمان “نعم العبد إنه أواب”.
وجاء في بعض التفاسير بروايات ضعيفة أن أيوب عليه السلام ابتلي بمرض شديد من الأمراض المنفرة، كالجذام أو الجدري، مما جعل الناس يهربون منه خشية العدوى، بل زاد البعض إنه ألقي به على مزبلة خارج البلدة التي يعيش فيها.
والصحيح أن كل هذه افتراءات لم يرد بها نص صحيح على الإطلاق، لأن الله عز وجل لم يكن ليبتلي نبيا من أنبيائه بمرض يبعد الناس عنه، لأن ذلك مما يتنافى مع أساس الدعوة وتبليغ الرسالة، والمؤكد أن كل ما جاء في هذا الصدد هو من الإسرائيليات الضعيفة التي تخالف ما جاء في القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة.
علاج رباني
بعد كل هذه المعاناة توجه أيوب إلى ربه بالدعاء، يطلب منه كشف ما به من بلاء “أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين” (الأنبياء: 83) و”أني مسني الشيطان بنصب وعذاب” (ص: 41).
واستجاب الله دعاءه، وكشف عنه بلاءه، بقدرته سبحانه التي لا حدود لها، الذي يقول للشيء كن فيكون، عندئذ جاء الفرج الإلهي بوصفة ربانية بقوله تعالى: “اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب” (ص: 42) وبالفعل جاء العلاج الإلهي شافيا وبسيطا ومريحا بشكل هين وميسر، فلقد أمر الله نبيه عليه السلام أن يضرب برجله الأرض، التي نبع منها الماء العذب، فشرب منه ليشفى من كل الأمراض التي في بطنه، ثم اغتسل بهذا الماء فشفاه الله من كل ما كان يعانيه من ظاهر جسده.
وكان من عادة أيوب عليه السلام أن تذهب معه زوجته عند قضاء الحاجة لتساعده، بسبب ضعفه الشديد، فإذا وصلت به إلى المكان المقصود تركته حتى ينتهي، لتعود مرة أخرى وتمسك به وتعينه على الرجوع إلى مكان إقامته.. لكنه في ذلك اليوم تأخر عليها.. بعدما أمره الله أن يضرب الأرض ويشرب من الماء الذي تفجر تحته ويغتسل فيه، لتعود عافيته التي حرم منها سنوات طوالا.
رجع أيوب إلى زوجته يمشي على قدميه، وهو في حالة من الصحة والنشاط، فلما رأته الزوجة الصابرة لم تعرفه، رغم أنها رأت فيه شبها لزوجها قبل أن يفتك به المرض، فسألته: هل رأى زوجها الرجل المريض المبتلى؟ وذكرت له ما لاحظته من شبه بينهما أيام كان صحيحا، فقال لها نبي الله إنه هو أيوب، وأن الله شفاه من كل ما أصابه، ثم أفاض الله عليه من نعمائه بقوله تعالى: “ووهبنا له أهله ومثلهم معهم رحمة منا وذكرى لأولي الألباب”، فأرغد الله سبحانه وتعالى على أهله العيش فزاد نسلهم حتى بلغ عددهم عدد من مضى، فكان له ضعف ما كان، وكما رد الله عليه عافيته وصحته رد عليه ضعفي المال الذي فقده، وضعفي ما كان عنده من الأولاد.
تأدب واستجابة
هذه هي قصة أيوب عليه السلام وهي كما يقول صاحب الظلال يرحمه الله من أروع قصص الابتلاء، والنصوص القرآنية تشير إلى مجملها دون تفصيل، وهي في هذا الموضوع تعرض دعاء أيوب واستجابة الله للدعاء، لأن السياق سياق رحمة الله بأنبيائه، ورعايته لهم في الابتلاء، سواء كان الابتلاء بتكذيب قولهم لهم وإيذائهم، كما في قصص إبراهيم ولوط ونوح، أم بالنعمة كما في قصة داود وسليمان، أو بالضر كما في حال أيوب.
وأيوب هنا في دعائه لا يزيد على وصفه حاله: “أني مسني الضر” ووصف ربه بصفته “وأنت أرحم الراحمين”، ثم لا يدعو بتغيير حاله، صبرا على بلائه، ولا يقترح شيئا على ربه، تأدبا معه وتوقيرا، فهو نموذج للعبد الصابر، لا يضيق صدره بالبلاء، ولا يتململ من الضرر الذي تضرب به الأمثال في جميع الأمصار، بل إنه ليتحرج أن يطلب من ربه رفع البلاء عنه، فيدع الأمر كله إليه، اطمئنانا إلى علمه بالحال.
وفي اللحظة التي توجه فيها أيوب إلى ربه بهذه الثقة وبذلك الأدب كانت الاستجابة، وكانت الرحمة وكانت نهاية الابتلاء: “فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر وآتيناه أهله ومثلهم معهم”، رفع عنه الضر في بدنه، فإذا هو معافى صحيح، ورفع عنه الضر في أهله فعوضه من فقد منهم ورزقه مثلهم وقيل هم أبناؤه فوهب الله لهم مثليهم أو أنه وهب له أبناء وأحفادا.