جاءت من الحبشة مع جيش أبرهة فوقعت في الأسر. أتى هذا الجيش لتحطيم الكعبة المشرفة وتحويل الأنظار إلى البيت الذي بناه أبرهة، كان معه فيل ضخم وأتى به ليثير الرعب والفزع في نفوس أهل مكة.
أرسل الله عليهم طيرا من السماء. ألقت عليهم بحجارة من جهنم. بددت شملهم وفرقت جمعهم، قتل منهم من قتل وفر منهم من فر.
عاشت الفتاة الحبشية حياة كريمة في الوطن الجديد لأمانتها ووفائها، وخلقها الكريم وسلوكها المستقيم. ولما جاء الإسلام ازدادت مكانتها سموا وارتفاعا كانت في طليعة السابقين إلى الدين الجديد، وقال عنها الرسول صلى الله عليه وسلم: “إنها من أهل الجنة”.
هي بركة بنت ثعلبة بن عمرو بن حصن الحبشية وقعت أسيرة أثناء حملة أبرهة على الكعبة. عاشت في بيت عبد المطلب جد النبي صلى الله عليه وسلم، وهبها بعد ذلك لابنه عبد الله، ومن بعدها إلى ولده خير الأنام عليه الصلاة والسلام.
تولت أمر حضانته ومسؤولية رعايته، فلما تزوج السيدة خديجة بنت خويلد - رضي الله عنها أعتقها لوجه الله.
كان الرسول صلى الله عليه وسلم يحسن معاملتها، ويناديها يا أماه، ويقول عنها: “هي أمي بعد أمي” وإذا رآها فرح برؤياها أو قال “هذه بقية أهل بيتي”.
وفي دعوة الإسلام لا فرق بين عربي وأعجمي ولا فضل لأبيض على أسود، إلا بالعمل الصالح والمثل الأعلى الذي رفعه فالنبي الكريم صلى الله عليه وسلم يقول “إن أكرمكم عند الله أتقاكم” وكانت أم أيمن من أكثر الناس إخلاصا ووفاء وإيمانا.
تزوجت من عبيد بن عمرو، وأنجبت ولدا، هو “ايمن بن عبيد”.
وبعد وفاة زوجها، وانتهاء عدتها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من سره أن يتزوج من امرأة من أهل الجنة فليتزوج أم أيمن، فتزوجها زيد بن حارثة، فأنجبت له فارس الإسلام أسامة بن زيد.
كانت أم أيمن في طليعة المصدقين لرسول الله المؤمنين برسالته هاجرت مرتين الأولى إلى الحبشة “وطنها الأول” ثم عادت ثم هاجرت إلى المدينة المنورة.
بذلت المرأة الصالحة أقصى ما تستطيع في خدمة الإسلام وشاركت في الجهاد في غزوات أحد وخيبر وحنين.
وفي الغزوة الأخيرة استشهد ولدها أيمن يومها، وقف صامدا أمام الخيل التي هاجمت جيوش الإسلام في الصباح الباكر وظل يجاهد حتى كتبت له الشهادة.
أحصى العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه ثمانية من الصحابة نصروا الله ورسوله: هو وابنه الفضل، وعلي بن أبي طالب وأبو سفيان بن الحارث وأسامة بن زيد وأبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب والثامن الشهيد أيمن بن عبيد رضي الله عنهم أجمعين.
مر النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم على أيمن ومعه مجموعة من الفتيان الصغار ممن يقاربونه في السن: كانوا يلهون ويلعبون، حلوا أحزمتهم وحولوها إلى سياط أخذوا يتضاربون بها في عنف وقسوة غضب رسول الله من هذا السلوك وقال مؤدبا ومؤنبا: “لا من الله استحوا ولا من رسول الله استتروا”. علمت أم أيمن بما كان من أمر ولدها، فغضبت منه وذهبت تعتذر وتطلب منه أن يسامحهم ويستغفر لهم، فاستغفر لهم النبي الكريم صلى الله عليه وسلم.
انصرف الفتى إلى حياة الجد، وترك حياة اللهو واللعب ومضى في طريق الاجتهاد والجهاد في سبيل الله.
من قبل ولدها، استشهد زوجها زيد بن حارثة في غزوة مؤتة، وراية الإسلام في يده، فتناولها جعفر بن عبد المطلب، ومن بعده عبد الله بن رواحة، ومن بعده خالد بن الوليد.
كان زوجها في حياته كريما، يحسن عشرتها ومعاملتها مستجيبا لأمر رسول الله في هذا الاتجاه.
“استوصوا بالنساء خيرا”، “خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي”.
وأكرمها أكثر وأكثر لأنها حاضنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولمنزلتها الكبرى في الآخرة بأنها سيدة من أهل الجنة.
بادلته الزوجة الكريمة عطفا بعطف، وأحسنت خدمته ورعايته “وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان”، ولما جاء خبر استشهاد زوجها ومن بعده ولدها، صبرت واحتسبت، وقالت “حسبنا الله ونعم الوكيل” وهتف قلبها قبل لسانها “إنا لله وإنا إليه راجعون”.
وزيد بن حارثة هو الوحيد من الصحابة الذي ورد اسمه في القرآن الكريم في شأن زواجه من زينب بنت جحش.
شب ولده أسامة بن زيد محاكيا له في الشجاعة والإقدام والجهاد في سبيل الله، وهو الذي قاد الجيش في صدر شبابه المبكر.
لما هاجرت أم أيمن أمست بمنطقة جرداء لا زرع بها ولا ماء أصابها عطش شديد واقتربت من الهلاك.
هبط عليها دلو من السماء فيه ماء شربت منه وارتوت فقالت: “ما أصابني بعد ذلك عطش”.
وقد صامت وسافرت في أيام اشتد فيها الحر، فما شعرت بالعطش بعدها. فمن له بهذه المنزلة وتلك الكرامة سوى أم أيمن؟! كانت طوال حياتها موضع احترام الجميع، في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وبعد انتقاله إلى جوار ربه.
كان أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما يحرصان على زيارتها مرة بعد أخرى تحية لها وإكراما لمنزلتها عند الله ورسوله.
قال الصديق أول الخلفاء الراشدين لعمر رضي الله عنهما: “انطلق بنا نزور أم أيمن، كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزورها”. فلما دخل عليها في بيتها بكت. قالا لها: ما يبكيك يا أم أيمن فما عند الله خير لرسوله.
قالت: أعلم والله. لقد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سيموت. لكنني أبكي على الوحي الذي رفع عنا.
وهنا جاشت الصدور، وفاضت العيون وبكى أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب مع أم أيمن، وانصرف الرجلان الصالحان من بيتها لكن الود ظل موصولا معها.
فلما مات أبو بكر حزنت عليه حزنا شديدا لكنه حزن مقنن يحميه إيمان عميق بقضاء الله وقدره. ولما قتل عمر بن الخطاب بكت، وماتت بعده بعشرين يوما في أول خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنهم أجمعين.